الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (148- 151): {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}قوله: {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ} أي من بعد خروجه إلى الطور {مِنْ حُلِيّهِمْ} متعلق ب {اتخذ} أو بمحذوف وقع حالاً، و{من} للتبعيض، أو للابتداء، أو للبيان. والحلي جمع حلى. وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة {من حُلِّيهم} بضم الحاء وتشديد الياء. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً بكسر الحاء. وقرأ يعقوب بفتح الحاء وتخفيف الياء. قال النحاس: جمع حَلْيٍ وحُليٍ وحِلِى مثل ثدي وثدي وثدي، والأصل حلوى أدغمت الواو في الياء، فانكسرت اللام لمجاورتها الياء، وتكسر الحاء لكسرة اللام وضمها على الأصل. وأضيفت الحلي إليهم وإن كانت لغيرهم؛ لأن الإضافة تجوز لأدنى ملابسة، و{عِجْلاً} مفعول {اتخذ}. وقيل: هو بمعنى التصيير، فيتعدى إلى مفعولين ثانيهما محذوف: أي اتخذوا عجلاً إلهاً. و{جَسَداً} بدل من عجلاً. وقيل وصف له. والخوار الصياح. يقال خار يخور خوراً إذا صاح. وكذلك خار يخار خواراً. ونسب اتخاذ العجل إلى القوم جميعاً، مع أنه اتخذه السامريّ وحده، لكونه واحداً منهم، وهم راضون بفعله.روي أنه لما وعد موسى قومه ثلاثين ليلة فأبطأ عليهم في العشر المزيدة، قال السامري لبني إسرائيل وكان مطاعاً فيهم: إن معكم حلياً من حلي آل فرعون الذي استعرتموه منهم لتتزينوا به في العيد، وخرجتم وهو معكم، وقد أغرق الله أهله من القبط، فهاتوها، فدفعوها إليه، فاتخذ منها العجل المذكور.قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ} الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي ألم يعتبروا بأن هذا الذي اتخذوه إلهاً لا يقدر على تكليمهم، فضلاً عن أن يقدر على جلب نفع لهم، أو دفع ضرّ عنهم. {وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} أي طريقاً واضحة يسلكونها {اتخذوه وَكَانُواْ ظالمين} أي اتخذوه إلهاً {وَكَانُواْ ظالمين} لأنفسهم في اتخاذه، أو في كل شيء. ومن جملة ذلك هذا الاتخاذ.قوله: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} أي ندموا وتحيروا بعد عود موسى من الميقات، يقال للنادم المتحير قد سقط في يده. قال الأخفش: يقال سقط في يده وأسقط. ومن قال: {سقط في أيديهم} على البناء للفاعل، فالمعنى عنده: سقط الندم. وأصله أن من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعضّ يده غماً، فتصير يده مسقوطاً فيها، لأن فاه قد وقع فيها.وقال الأزهري والزجاج والنحاس وغيرهم: معنى {سقط في أيديهم} أي في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد، لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد، قال الله تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] وأيضاً الندم وإن حلّ القلب، فأثره يظهر في البدن، لأن النادم يعضّ يده، ويضرب إحدى يديه على الأخرى، قال الله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42] ومنه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] أي: من الندم. وأيضاً النادم يضع ذقنه في يده.{وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} معطوف على {سقط}: أي تبينوا أنهم قد ضلوا باتخاذهم العجل، وأنهم قد ابتلوا بمعصية الله سبحانه: {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} قرأ حمزة والكسائي بالفوقية في الفعلين جميعاً. وقرأ الباقون بالتحتية، واللام للقسم، وجوابه: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} وفي هذا الكلام منهم ما يفيد الاستغاثة بالله والتضرع والابتهال في السؤال. وسيأتي في سورة طه إن شاء الله ما يدل على أن هذا الكلام المحكي عنهم هنا وقع بعد رجوع موسى. وإنما قدم هنا على رجوعه لقصد حكاية ما صدر عنهم من القول والفعل في موضع واحد. قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفًا} هذا بيان لما وقع من موسى بعد رجوعه. وانتصاب غضبان وأسفا على الحال، والأسف شديد الغضب. قيل هو منزلة وراء الغضب أشدّ منه، وهو أسف وأسيف وأسفان وأسوف، قال ابن جرير الطبري: أخبره الله قبل رجوعه بأنهم قد فتنوا، فلذلك رجع وهو غضبان أسفاً.{قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى} هذا ذمّ من موسى لقومه، أي بئس العمل ما عملتموه من بعدي، أي من بعد غيبتي عنكم، يقال خلفه بخير وخلفه بشرّ، استنكر عليهم ما فعلوه، وذمهم لكونهم قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الانزجار والإيمان بالله وحده، ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلوّن حالهم واضطراب أفعالهم. ثم قال منكراً عليهم {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ} والعجلة. التقدّم بالشيء قبل وقته، يقال عجلت الشيء سبقته، وأعجلت الرجل حملته على العجلة، والمعنى: أعجلتم عن انتظار أمر ربكم؟ أي ميعاده الذي وعدنيه، وهو الأربعون ففعلتم ما فعلتم. وقيل معناه: تعجلتم سخط ربكم. وقيل معناه: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم.{وَأَلْقَى الألواح} أي طرحها لما اعتراه من شدّة الغضب والأسف، حين أشرف على قومه، وهم عاكفون على عبادة العجل.قوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} أي أخذ برأس أخيه هارون، أو بشعر رأسه حال كونه يجرّه إليه فعل به ذلك لكونه لم ينكر على السامريّ، ولا غيره ما رآه من عبادة بني إسرائيل للعجل، فقال: هارون معتذراً منه {ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} أي إني لم أطق تغيير ما فعلوه لهذين الأمرين، استضعافهم لي، ومقاربتهم لقتلي. وإنما قال: {ابن أمّ} مع كونه أخاه من أبيه وأمه، لأنها كلمة لين وعطف، ولأنها كانت كما قيل مؤمنة.وقال الزجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه. قرئ: {ابن أمّ} بفتح الميم تشبيهاً له بخمسة عشر، فصار كقولك يا خمسة عشر أقبلوا.وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد: إن الفتح على تقدير يابن أما.وقال البصريون هذا القول خطأ. لأن الألف خفيفة لا تحذف، ولكن جعل الاسمين اسماً واحداً كخمسة عشر، واختاره الزجاج والنحاس. وأما من قرأ بكسر الميم، فهو على تقدير ابن أمي، ثم حذفت الياء وأبقيت الكسرة، لتدل عليها.وقال الأخفش وأبو حاتم: ابن أمّ بالكسر، كما تقول يا غلام أقبل وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة. وإنما هذا فيما يكون مضافاً إليك. وقرئ: {ابن أمي} بإثبات الياء.قوله: {يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الأعداء} الشماتة: السرور من الأعداء بما يصيب من يعادونه مع المصائب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وجهد البلاء، وشماتة الأعداء» وهو في الصحيح. ومنه قول الشاعر:والمعنى: لا تفعل بي ما يكون سبباً للشماتة منهم. وقرأ مجاهد ومالك بن دينار {فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الأعداء} بفتح حرف المضارعة، وفتح الميم، ورفع الأعداء على أن الفعل مسند إليهم، أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله بي.وروي عن مجاهد أنه قرأ: {تُشْمِتْ} كما تقدّم عنه مع نصب الأعداء. قال ابن جني: والمعنى فلا تشمت بي أنت يا ربّ، وجاز هذا كما في قوله: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} [البقرة: 15] ونحوه، ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء، كأنه قال: ولا تشمت يا ربّ بي الأعداء، وما أبعد هذه القراءة عن الصواب، وأبعد تأويلها عن وجوه الإعراب.قوله: {وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين} أي: لا تجعلني بغضبك عليّ في عداد القوم الظالمين، يعني الذين عبدوا العجل، أو لا تعتقد أني منهم.قوله: {قَالَ رَبّ اغفر لِي وَلأَخِي} هذا كلام مستأنف جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قال موسى بعد كلام هارون هذا؟ فقيل: {قَالَ رَبّ اغفر لِى وَلأَخِي} طلب المغفرة له أوّلاً، ولأخيه ثانياً، ليزيل عن أخيه ما خافه من الشماتة، فكأنه تذمم مما فعله بأخيه، وأظهر أنه لا وجه له، وطلب المغفرة من الله مما فرط منه في جانبه، ثم طلب المغفرة لأخيه إن كان قد وقع منه تقصير فيما يجب عليه من الإنكار عليهم وتغيير ما وقع منهم، ثم طلب إدخاله وإدخال أخيه في رحمة الله التي وسعت كل شيء، فهو {أَرْحَمُ الرحمين}.وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد، في قوله: {واتخذ قَوْمُ موسى} الآية، قال: حين دفنوها ألقى عليها السامري قبضة من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام.وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في الآية قال: استعاروا حلياً من آل فرعون، فجمعه السامري فصاغ منه {عِجْلاً} فجعله {جَسَداً} لحماً ودماً {لَّهُ خُوَارٌ}.وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، في قوله: {خُوَارٌ} قال: الصوت.وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك قال: خار العجل خورة لم يئن، ألم تر أن الله قال: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ}.وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} قال: ندموا.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ من طرق، عن ابن عباس {أَسَفاً} قال: حزينا.وأخرج أبو الشيخ، عن أبي الدرداء، قال: الأسف منزلة وراء الغضب أشدّ من ذلك.وأخرج عبد بن حميد، عن محمد بن كعب، قال: الأسف الغضب الشديد.وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: لما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفعت إلا سدسها.وأخرج أبو الشيخ عنه قال: رفع الله منها ستة أسباعها وبقي سبع.وأخرج أبو نعيم في الحلية، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، قال: لما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى.وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، قال: كانت تسعة رفع منها لوحان وبقي سبعة.وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين} قال: مع أصحاب العجل. .تفسير الآيات (152- 154): {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}الغضب ما نزل بهم من العقوبة في الدنيا بقتل أنفسهم، وما سينزل بهم في الآخرة من العذاب، والذلة هي التي ضربها الله عليهم بقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} [البقرة: 61]. وقيل: هي إخراجهم من ديارهم. وقيل: هي الجزية، وفيه نظر لأنها لم تؤخذ منهم، وإنما أخذت من ذراريَهم. والأولى أن يقيد الغضب والذلة بالدنيا، لقوله: {فِي الحياة الدنيا} وأن ذلك مختص بالمتخذين للعجل إلهاً، لا لمن بعدهم من ذراريهم. ومجرّد ما أمروا به من قتل أنفسهم هو غضب من الله عليهم، وبه يصيرون أذلاء. وكذلك خروجهم من ديارهم هو من غضب الله عليهم، وبه يصبرون أذلاء. وأما ما نال ذراريهم من الذلة فلا يصحّ تفسير ما في الآية به إلا إذا تعذر حمل الآية على المعنى الحقيقي، وهو لم يتعذر هنا {وكذلك نَجْزِى المفترين} أي: مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين. والافتراء الكذب، فمن افترى على الله سيناله من الله غضب وذلة في الحياة الدنيا. وإن لم يكن بنفس ما عوقب به هؤلاء، بل المراد ما يصدق عليه أنه من غضب الله سبحانه، وأن فيه ذلة بأيّ نوع كان {والذين عَمِلُواْ السيئات} أي: سيئة كانت {ثُمَّ تَابُواْ} عنها {مِن بَعْدِ} عملها {وَءامَنُواْ} بالله {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي: من بعد هذه التوبة، أو من بعد عمل هذه السيئات التي قد تاب عنها فاعلها وآمن بالله {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير الغفران لذنوب عباده وكثير الرحمة لهم.قوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} أصل السكوت: السكون والإمساك، يقال جرى الوادي ثلاثاً ثم سكن، أي أمسك عن الجري. قيل هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجرّ برأس أخيك، فترك الإغراء وسكت. وقيل: هذا الكلام فيه قلب، والأصل: سكت موسى عن الغضب، كقولهم أدخلت الإصبع الخاتم، والخاتم الإصبع. وأدخلت القلنسوة رأسي، ورأسي القلنسوة. وقرأ معاوية ابن قرّة {ولما سكن عن موسى الغضب}. وقرئ: {سكت وأسكت}{أَخَذَ الألواح} التي ألقاها عند غضبه {وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} النسخ نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر. ويقال للأصل الذي كان النقل منه نسخة، وللمنقول نسخة أيضاً. قال القشيري: والمعنى {وَفِى نُسْخَتِهَا} أي فيما نسخ من الألواح المتكسرة، ونقل إلى الألواح الجديدة {هُدًى وَرَحْمَةً}. وقيل المعنى: وفيما نسخ له منها، أي من اللوح المحفوظ. وقيل المعنى: وفيما كتب له فيها هدى ورحمة، فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه، وهذا كما يقال أنسخ ما يقول فلان، أي أثبته في كتابك. والنسخة فعلة، بمعنى مفعولة كالخطبة.والهدى ما يهتدون به من الأحكام، والرحمة ما يحصل لهم من الله عند عملهم بما فيها من الرحمة الواسعة. واللام في {لّلَّذِينَ هُمْ} متعلقة بمحذوف، أي كائنة لهم أو لأجلهم، واللام في {لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ} للتقوية للفعل، لما كان مفعوله متقدّماً عليه، فإنه يضعف بذلك بعض الضعف.وقد صرح الكسائي بأنها زائدة.وقال الأخفش: هي لام الأجل، أي لأجل ربهم يرهبون.وقال محمد بن يزيد المبرد: هي متعلقة بمصدر الفعل المذكور، والتقدير: للذين هم رهبتهم لربهم يرهبون.وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أيوب، قال: تلا أبو قلابة هذه الآية {إِنَّ الذين اتخذوا العجل} إلى قوله: {وكذلك نَجْزِى المفترين} قال: هو جزاء كل مفتر، يكون إلى يوم القيامة أن يذله الله.وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: أعطى موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد، فيها تبيان لكل شيء وموعظة. ولما جاء فرأى بني إسرائيل عكوفاً على العجل رمى التوراة من يده فتحطمت، وأقبل على هارون فأخذ برأسه، فرفع الله منها ستة أسباع وبقي سبع {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ مُّوسَى الغضب أَخَذَ الألواح وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} قال: فيما بقي منها.وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، قال: كانت الألواح من زمرّد، فلما ألقاها موسى ذهب التفصيل، وبقي الهدى والرحمة، وقرأ: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء} وقرأ: {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة} قال: ولم يذكر التفصيل هاهنا.
|